صراع الأجيال: الأسباب و الحلول؟
مقدمة تاريخية
قبل الخوض في علاج أزمة الثقة بين الأجيال ، أود أن اعود بإيجاز الى الخلفيات التاريخية.
إن تاريخ الجزائر على غرار تاريخ الدول الإسلامية و
العربية المستقلة حديثا يعد استمرار لمسيرة المصلحين السائرين على نهج أسلافهم
الأبرار .
مثل الحركات الإصلاحية التي تنادي كلها بضرورة الجمع بين مواكبة مستجدات
العصر من علوم كونية نافعة التي يتحكم فيها الغرب مع المحافظة على الأصالة و
الهوية الإسلامية للأمة. نذكر من هذه الحركات الدعوة الوهابية بالجزيرة العربية
(هذه الحركة التي شوهت صورتها بالإعلام المعاصر ،وما هي إلا دعوة لإصلاح العقيدة و
العودة لنهج سنة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم و التحرر من التقليد).
وكذا
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي من روادها الشيخ ابن باديس رحمه الله . و
غيرها من الحركات التي ظهرت عقب ضعف الدولة العثمانية (الرجل المريض) منذ القرن
التاسع عشر أو قبله ، وما صاحب هذا الضعف من مظاهر التخلف العلمي و الحضاري و
الديني فاحتلت معظم أقطارها من طرف القوى الإمبريالية الغربية .
و الحمد لله فقد أثمرت هذه الحركات بثورات
شعبية كان نتيجتها استقلال جل الدول المحتلة من الاستعمار الأوروبي في النصف
الثاني من القرن العشرين ( ما عدا فلسطين نسأل الله أن يفك قيدها من الصهاينة).و
هكذا نالت الجزائر حريتها يوم 05 جويلية 1962 م بعد ثورة سبع سنين.
و اليوم و بعد
أكثر من نصف قرن من الاستقلال يجد الشعب الجزائري كباقي الشعوب العربية يدور في
نفس حلقه التخلف و التبعية الاقتصادية و الثقافية للغرب باستثناء بعض المنجزات من
هياكل تعليمية و جامعات و مشاريع اجتماعية وتنموية مثل الطرق السيارة و مشاريع
سكنية محدودة مؤخرا و غيرها و هذا ناتج من
عائدات البلاد من النفط و التي ينبغي تنويعها الى بدائل أخرى مثل السياحة و
الفلاحة و صناعة آلات الإتصال الحديثة و غيره.
و كان من المفروض أن تتحد الدول الإسلامية المستقلة تحت راية الإسلام و
إذ بها مختلفة فيما بينها و يفصل بينها حدود من بقايا الاستعمار ، و لا زال الكثير
من فئات الشعب و الحكام تابعين و مقلدين لمذاهب الغرب العلمانية و فئات أخرى غارقة
في الجمود الديني و التعصب و سوء الفهم للدين ، باستثناء بعض الدول مثل ماليزيا و
تركيا التي نهضت مؤخرا في مختلف المجالات .
و أمام هذا الوضع نادى الكثير من مصلحي
المجتمع بضرورة التغيير، و إن كانت نياتهم و غايتهم سليمة و لكن خروجهم الى
الشوارع في مسيرات(سلمية) تعتبر وسيلة غير صحيحة تتنافى مع المنهج العلمي المتدرج
الذي سطره علماء الأمه ، قال عز و جل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا
الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم
تومنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا) "النساء".
و ينبغي
لعقلاء التغيير هؤلاء ان يحولوا هذه المسيرات الى عمل مدروس بالحوار مع السلطة
للدخول سلميا في أعلى هرم السلطة.
و بالعودة الى موضوعنا الأصلي فإذا اعتبرنا بداية القرن العشرين هو زمن الجيل الأول فإن رواد الحركات الإصلاحية الأولى أمثال محمد عبده و مبارك الميلي و مالك بن نبي ينتمون الى الجيل الأول . و لكن لبعدنا الزمني عنهم نسبيا سابدأ تصنيف الجيل الأول من الذين يلونهم من المصلحين:
_ الجيل الأول:
و هو الجيل الذي ولد حوالي في ثلاثينات القرن العشرين ، ففي مجال الدعوة أذكر على سبيل المثال لا الحصر كبار شيوخ اهل السنة و الجماعة كالألباني و ابن عثيمين رحمهم الله.و عسكريا قائد الأركان المصرية الأسبق الجنرال الشاذلي ،مهندس نصر 1973 ، و الذي عاش بالجزائر في الثمانينات (توفي رحمه الله عام 2011) .و برزت اهم أعمالهم في سبعينيات القرن الماضي.
_ الجيل الثاني :
أوائل هذا الجيل ولد
أثناء الثورة أو قبلها بقليل ، و هو الذي حكم المناصب العليا في البلاد لفترة طويلة من الاستقلال الى العقد الأول من
القرن الواحد و العشرين ويعتبر امتداد لجيل الثورة .
من محاسن هذا الجيل حزمه و
صلابته في علاجه لتحديات بناء الدولة الجزائرية و تمسكه الشديد بمبادئه التي ورثها
من جيل الثورة، و إذ يعد هذا شيء إيجابي خاصة
بعد الاستقلال و لكن هذا الأسلوب العنيف المتجبر لا يصلح في عصرنا الراهن
؛أي من بداية القرن الواحد و العشرين (2000 م الى الآن) عصر التواصل بمختلف وسائل الاتصال
الحديثة ،عصر يتطلب التحاور المهذب مع فكر الآخرين،
و بناء مجتمع متنور على غرار
ما يحصل في مجتمعات العالم المتحضرة . و قد نبه الكثير من علماء الأجتماع عن ذهول هذا الجيل عن التحولات التي تحصل في الأجيال الحالية في المجتمع.من أواخر هذا الجيل أذكر المؤرخ الكبير محمد الأمين بلغيث، و الدكتور النابلسي...
_ الجيل الثالث :
المولود
(غالبيته) بعد الاستقلال أي في السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي و سنه الأن
يفوق الأربعين عام و هذا الجيل الذي أنتمي إليه (ولدت سنة 1978 م) يعد جيل وسط بين الجيل السابق و الرابع ، فجمع
بين حزمه و حفاظه لمبادئ الهوية الأصيلة للأمة (دينيا و ثقافيا...) مثل أسلافه و
بين تحرره و تحكمه في تكنولوجيات العصر السريعة مثل الجيل الأخير.
و قد عانى و
تأخر هذا الجيل للوصول الى مناصب الدولة تمكنه من تسخير مواهبه و ما تعلمه لخدمة
المجتمع و هذا لتسلط و احتكار الجيل الثاني لدواليب السلطة، خاصة المناصب العليا.
فهاجر الكثير من خيرة هذا الجيل الى الدول الغربية و الخليجية للأسف (منهم زملائي
في الدراسة)،و منهم من انحرف دينيا في متاهات التعصب لا يسعني هنا شرحها.
_ الجيل الرابع و الأخير :
وهو
شباب الحاضر المولود مع نهاية القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين و
يختلف هذا الجيل الى حد كبير مع سابقيه خاصة مع الجيل الأول و الثاني.
فورث هذا الجيل قيم
أسلافه التاريخية و الدينية و غيرها بشكل سطحي ضعيف إلا القليل منهم نتيجة
السياسات التربوية الخاطئة السابقة ( اغراق في التخصص التقني و اهمال الهوية الأصلية) فالكثير من افراده (و ليس الجميع) مميع اضمحلت
شخصيته بتأثيرات الحضارة الغربية عبر وسائل الإعلام، ورغم هذا نذكر على سبيل الإنصاف انه من إيجابيات هذا
الجيل مواكبته لمستجدات العلوم الحديثة خاصة وسائل التواصل :الأنترنت...و سرعة
ذكاءه وتعامله معها، (أذكر مرارا هذه الوسائل الرقمية لأنها صارت الميزة البارزة لهذا العصر). و هنا تبرز الهوة الكبيرة بينه و بين سابقيه خاصة بقايا الجيل
الثاني في القيم و أساليب الحياة و غيرها .
الخاتمة:
و في الختام ينبغي للعقلاء فتح مجالات للحوار
و التفاهم بين هذه الأجيال ، فلا يخلو أي
من هذه الأجيال من محاسن و مساوئ و الكمال لله ، كما ينبغي للجيل الأول و الثاني أن
يفسح المجال لكوادر و اطارات الشباب الحالي لحمل الأمانة ومواصلة الرسالة، و على
الجيل الحاضر أن يحترم و يستفيد من تجربة أسلافه.
هذا و الله أعلم.
البليدة في 17 رمضان 1440 ه
آخر تحديث : 27 05 43/ 31 12 2021.
بارك الله فيك c'est trés intéressant
ردحذف